قصــة قصيــرة: ***************************
غـــــدا.. نشـــــــد الرحــــــــال!
عند منحدر الجبل،حيث تمتــد غابات الزيتــون، راسخة جــذورها في الأرض، شامخة نحـو السماء، توسدتُ الأرض و اتكأت بظــهري على جـــذع إحداها، ألتحف السمــــــــــاء و أستنشق عبيرها المعتق الـــذي يعبــق في زوايا المكان و يلطف الأجواء. أخـــذ شريــط الذاكــرة يتحــرك أمامي، و مـن بعيد تصل إلى مسامعي نغمات ناي الراعــي الحزينة فتثير فيَ الشــوق، وترجعني سنوات طويلة إلــى الوراء...
في هـذا المكان دارت أحلى ليالي السمر الصيفية، و حوله، علـى امتداد هـذه السهول، كنا ،في موسم الحصاد ، نجـري خلف آلات الحصاد ، نلملــم القـش المتخلف وراءها و ننثـره على بعضنا البعـض و نحـن نضحــك ملء الأشداق، و أصواتنا تجلجـل فـــي علـو السماء، و قيثــارة ضحكات كبـــار العائلة تعزف الفـرح لأجلنا فيــرموننا بوابل مــــــــــن الطرائف و الفكاهات. و لكن أين هم الآن؟ أيــن أجسادهم القمحية التـــي لفحتها الشمس؟ أيـــــن حناجرهم القوية التي تنبع أصواتها من عمق التاريــخ؟ و أين عقولهم الراجحة الرزينة التـي طالما مدت لنا مجاديف الأمان؟
ما زال شريـــط الذاكرة يلتـف حولي، ويُطبـق علـــى روحي فتضيــق أنفاسي حتــى لأكــــاد أختنـق لفداحة الخطب و عظمة المُصاب.
فـــي ليلـة مـــن تلك الليالـي، وبيـنما نحن في سمرنا الصيفـي، عـلا- فجأة- أزيـــــز الطائرات فطغى على أصــوات الآلات و جلجـلـة الضحكات. كأنما انـبلــج النهار، أضواء خارقــة تـرتطــم بالأرض، دويّ القنابــل و المتفجــرات ينبـع من كل الاتجاهات، تراب يتطايـــر و غيوم من دخان تغطي أنــوار المصابيح الواهنة و ضياء القمر. ساد الهرج والمرج فتعالت أصواتهم:
- أسرعوا..انبـطحوا أرضا..تحصّنوا داخل الكهف هناك!
كان الخوف يتملكـنا و يكاد يصرعنا، و نحــن نعــدو مشدوهـين لا نعي ما يحدث ولا نـدرك لماذا، كنا فقـط نستجيب لأوامر الغوالي.
لا أعلم كم مــــرّ من الوقت و نحـن محاصرون داخل كهف الرعب و الترقب، لنصحو مـن غفلتنا على وقـع أقــــدام تحُثّ الخطى باتجاهــنا فينبـثق ضوء خافـت و مـن وراءه صوت متعــب حزين يقــــول: ‹ انهضوا يا صغاري، لقد زال الخطر.. ذهب الأوغاد، لكن...! › لم يكــــن بحاجة إلى الكـــلام ، كانت مشاهــد الموت و الدمار تحكي عن حالــها، لفّعــتِ النفـوس بالأسى، فارتدينا الدموع.
جالت عيناي في المكان متنقـلة بيـــن مشاهـد المـوت الفظيعـة التي لـن أنساها ما حييت،و التي صنعتها الأيــــدي الإجرامية الآثمة. وضعتُ كفي على عيني غير مصدقة ما أرى. كم تمنيــت أن يكون ما أراه مجـــرد كابوس داهمني على حيــن غرة؛ لكن الأجساد الغارقة في الدماء و الأشلاء المتناثــرة، و عــويل النساء الذي يملأ المكان وذهول الأطفال من حولي، كلها كانت تؤكـد الواقعة و تشي بهَوْلِـها.
في لحظـــةٍ كنــتُ أنهـارُ و أقـع أرضا أتمــرغ بدمـاء الشهـداء و ألـثـم آثــــار أقــــدامـهم الطاهرة، تحضنــني بحنان أرض لــم تعــد لنا... غدا....سنشد الرحال...!!