إننا نتعامل مع النقود كل يوم ومع ذلك لا نفهم طبيعتها، لأن للنقود نظاماً اجتماعيا قد فرض نفسه وأصبح يكشف عن طبيعة المجتمع وعن نظامه الاجتماعي. فما هي حقيقة النقود وما هي الخصائص الجوهرية التي تتداخل مع مختلف أنشطة الحياة الاقتصادية والتي قد تلتبس على بعض المتخصصين؟
تمثل النقود أحد أهم اكتشافات الإنسان والتي أثرت في حياته وتطور المجتمعات على نحو لا يكاد يعادله في الأهمية سوى اكتشاف الإنسان للنار والكتابة. وإذا كان اكتشاف النار قد فتح أمام الإنسان باب السيطرة على الطبيعة وتطويع الأشياء وبالتالي انطلاق "الإنسان الصانع"، فإن الكتابة قد أتاحت له فرصة تراكم المعرفة وتسجيل الذاكرة الجماعية وتقدم العلوم والمعارف وبها تأكد معنى "الإنسان المفكر". وجاءت النقود لتفسح الطريق أمام هذا "الإنسان الصانع" و "المفكر" لكي يترجم هذه المكتسبات إلى رفاهية وتقدم اقتصادي! فبالنقود ومن خلال تطورها اكتسبت الثروة آفاقا جديدة وبالتالي فتح الطريق أمام التقدم الاقتصادي المذهل الذي عرفه الإنسان في خلال تاريخه الطويل. فالتقدم الذي حققه الإنسان لم يكن فقط وليد اكتشافات "فنية وتكنولوجية" كما بدأتها رحلة الإنسان مع اكتشاف النار، كما لم يكن فقط وليد ثورة "ذهنية وفكرية" عندما فجرها اكتشاف الإنسان للكتابة، ولكن هذا التقدم يرجع في جزء غير قليل منه إلى استنباط الإنسان لعديد من النظم والمؤسسات الاقتصادية، وفي مقدمتها فكرة النقود.
غموض طبيعة النقود
رغم أهمية النقود في حياة الإنسان، ومع الاعتراف بأن الغالبية العظمى من البشر يهتمون بها، بل وقد يسعون إليها - رغم ادعائهم غير ذلك في كثير من الأحيان - فإنه من الغريب أن عددا محدودا جدا يفهم حقيقة النقود وطبيعتها. ولا يقتصر الأمر على الجمهور الغفير من غير المتخصصين، بل إن بعض الخصائص الجوهرية للنقود في تداخلها مع مختلف مظاهر الحياة الاقتصادية قد تلتبس حتى على بعض المتخصصين. فالنقود رغم تعاملنا اليومي معها لم تزل كيانا خاصا له حياته المستقلة ويتطور بشكل مستمر على نحو قد نغفل فيه عن بعض خصائصه الرئيسية. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن النقود "نظام اجتماعي" لم ينشأ نتيجة لتصور معين أو لفكرة محددة لدى مفكر أو باحث. النقود ليست اختراعا، ولكنها كيان اجتماعي متطور فرضته حاجات التعامل على نحو متدرج وغير ملموس، ولم تلبث النقود أن فرضت قانونها على التعامل ذاته، وبالتالي فإن هناك علاقات من التأثير المتبادل بين احتياجات التعامل - وفي مقدمتها اقتصاد التبادل - وبين النقود، دون أن يمكن تحديد شكل علاقة السببية على نحو واضح ومحدد. وقد تطور شكل النقود خلال المراحل المختلفة، فعرفت مرحلة للنقود السلعية حيث قامت بوظائف النقود سلعة من السلع، ثم ظهرت مرحلة النقود المعدنية حيث استقر التعامل على أنواع محددة من المعادن النفيسة (الذهب والفضة) لكي تقوم بوظائف النقود، وجاءت بعد ذلك مرحلة النقود الورقية (البنكنوت) وبحيث أصبحت الأوراق التجارية التي تصدرها البنوك - استنادا إلى المعدن النفيس - هي التي تقوم بوظائف النقود، وأخيرا ظهرت مرحلة النقود الائتمانية والتي تخلصت فيها النقود من كل مظهر مادي - فهي ليست سلعة ولا معدنا ولا حتى ورقة تجارية - وإنما مجرد حق أو دين. وبهذا المنظور تحررت النقود كلية من كل شكل مادي لتمثل علاقة مجردة بين دائن ومدين، ولكن مع خصوصية جديدة هي أن مديونية المدين تخفي وراءها مديونية المجتمع أو الاقتصاد القومي في مجموعه على ما سنرى.
وإذا كان فهم أي ظاهرة يزداد عمقا بمتابعة تطورها التاريخي، فإن الاهتمام بتاريخ النقود وتطور مراحلها كثيرا ما كان سببا في عدم إدراك حقيقة النقود وكنهها. فالتاريخ المادي الطويل للنقود وخصائصها السلعية أو ارتباطها بالمعدن النفيس أو شروط إصدارها من البنك المركزي أو البنوك بصفة عامة، كل ذلك قد ساعد على طمس حقيقة النقود الرئيسية وهي: أنها حق وبالتالي علاقة معنوية وليست شيئا ماديا محددا، وهي علاقة تعطي حاملها الحق في استيفائه من السلع والخدمات المعروضة للبيع، وبالتالي فإن المدين النهائي ليس شخصا محددا إنما هو جمهور البائعين. وفي كل ذلك لا تظهر النقود كنوع من المثليات لها ما يقابلها عددا ونوعا محددا مسبقا، وإنما هي على العكس علاقة بين صاحب النقود وبين المجتمع أو الاقتصاد القومي في مجموعه تتحدد فيه حقوقه بقدر ما يحدث في الاقتصاد من تقدم أو تأخر. فالنقود ظاهرة اجتماعية مركبة تعكس مختلف العلاقات الاقتصادية داخل المجتمع. كل هذه أمور لم تكن واضحة عندما اقتصر الحديث على النقود المادية سلعة كانت أو معدنا أو ورقا، ولم يعد الأمر كذلك حينما كشفت النقود عن حقيقتها بعد أن تجردت كلية من كل مظهر مادي. وحتى لا نستبق الأمور فلنبدأ منذ البداية لنعرف النقود ونميز بينها وبين ما يختلط بها.